فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)}.
قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} أنث الفعل لكونه مسندًا إلى قوم، وهو في معنى الجماعة، أو الأمة، أو القبيلة، وأوقع التكذيب على المرسلين، وهم لم يكذبوا إلاّ الرسول المرسل إليهم، لأن من كذب رسولًا فقد كذب الرسل، لأن كلّ رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل.
وقيل: كذبوا نوحًا في الرسالة، وكذبوه فيما أخبرهم به من مجيء المرسلين بعده.
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أي: أخوهم من أبيهم، لا أخوهم في الدين.
وقيل: هي أخوة المجانسة، وقيل: هو من قول العرب: يا أخا بني تميم، يريدون واحدًا منهم {أَلاَ تَتَّقُونَ} أي: ألا تتقون الله بترك عبادة الأصنام، وتجيبون رسوله الذي أرسله إليكم؟ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي إني لكم رسول من الله أمين فيما أبلغكم عنه، وقيل: أمين فيما بينكم، فإنهم كانوا قد عرفوا أمانته وصدقه {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أي اجعلوا طاعة الله وقاية لكم من عذابه، وأطيعون فيما آمركم به عن الله من الإيمان به وترك الشرك، والقيام بفرائض الدين {وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي ما أطلب منكم أجرًاعلى تبليغ الرسالة، ولا أطمع في ذلك منكم {إِنْ أَجْرِيَ} الذي أطلبه وأريده {إِلاَّ على رَبّ العالمين} أي ما أجري إلاّ عليه، وكرّر قوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق كل واحد منهم بسبب، وهو الأمانة في الأوّل، وقطع الطمع في الثاني، ونظيره قولك: ألاّ تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرًا؟ ألاّ تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرًا؟ وقدّم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته؛ لأن تقوى الله علة لطاعته.
{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} الاستفهام للإنكار أي كيف نتبعك ونؤمن لك، والحال أن قد اتبعك الأرذلون؟ وهم جمع أرذل، وجمع التكسير أرذال، والأنثى: رذلى، وهم الأقلون جاهًا ومالا، والرذالة الخسة والذلة، استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم، أو لاتضاع أنسابهم.
وقيل: كانوا من أهل الصناعات الخسيسة، وقد تقدم تفسير هذه الآيات في هود.
وقرأ ابن مسعود، والضحاك، ويعقوب الحضرمي: {وأتباعك الأرذلون} قال النحاس: وهي قراءة حسنة، لأن هذه الواو تتبعها الأسماء كثيرًا، وأتباع جمع تابع، فأجابهم نوح بقوله: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} كان زائدة، والمعنى: وما علمي بعملهم أي لم أكلف العلم بأعمالهم.
إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان والإعتبار به، لا بالحرف والصنائع والفقر والغنى، وكأنهم أشاروا بقولهم: {واتبعك الأرذلون} إلى أن إيمانهم لم يكن عن نظر صحيح، فأجابهم بهذا.
وقيل: المعنى: إني لم أعلم أن الله سيهديهم ويضلكم.
{إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ} أي ما حسابهم، والتفتيش عن ضمائرهم وأعمالهم إلاّ على الله لو كنتم من أهل الشعور والفهم، قرأ الجمهور: {تشعرون} بالفوقية، وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع والأعرج وأبو زرعة بالتحتية، كأنه ترك الخطاب للكفار، والتفت إلى الإخبار عنهم.
قال الزجاج: والصناعات لا تضرّ في باب الديانات، وما أحسن ما قال: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} هذا جواب من نوح على ما ظهر من كلامهم من طلب الطرد لهم: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي ما أنا إلا نذير موضح لما أمرني الله سبحانه بإبلاغه إليكم، وهذه الجملة كالعلة لما قبلها.
{قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} أي إن لم تترك عيب ديننا وسبّ آلهتنا لتكونن من المرجومين بالحجارة.
وقيل: من المشتومين، وقيل: من المقتولين، فعدلوا بعد تلك المحاورة بينهم وبين نوح إلى التجبر والتوعد، فلما سمع نوح قولهم هذا، قال: {رَبّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} أي أصرّوا على تكذيبي، ولم يسمعوا قولي، ولا أجابوا دعائي {فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} الفتح: الحكم أي احكم بيني وبينهم حكمًا، وقد تقدّم تحقيق معنى الفتح {وَنَجّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين}.
فلما دعا ربه بهذا الدعاء استجاب له، فقال: {فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون} أي السفينة المملوءة، والشحن ملء السفينة بالناس، والدوابّ، والمتاع {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين} أي ثم أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي: علامة وعبرة عظيمة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} كان زائدة عند سيبويه، وغيره على ما تقدّم تحقيقه {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي القاهر لأعدائه، الرحيم بأوليائه.
{كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين} أنث الفعل باعتبار إسناده إلى القبيلة، لأن عادًا اسم أبيهم الأعلى.
ومعنى تكذيبهم المرسلين مع كونهم لم يكذبوا إلا رسولًا واحدًا قد تقدّم وجهه في قصة نوح قريبًا {إِذ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} الكلام فيه كالكلام في قول نوح المتقدم قريبًا، وكذا قوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين} الكلام فيه كالذي قبله سواء {أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً تَعْبَثُونَ} الريع: المكان المرتفع من الأرض جمع ريعة، يقال: كم ريع أرضك؟ أي كم ارتفاعها.
قال أبو عبيدة: الريع: الارتفاع جمع ريعة.
وقال قتادة، والضحاك، والكلبي: الريع الطريق، وبه قال مقاتل والسديّ.
وإطلاق الريع على ما ارتفع من الأرض معروف عند أهل اللغة، ومنه قول ذي الرمة:
طراق الخوافِي مشرف فوق ريعة ** بذي ليله في ريشه يترقرقُ

وقيل: الريع الجبل، واحده ريعة، والجمع أرياع.
وقال مجاهد: هو الفجّ بين الجبلين، وروي عنه أنه الثنية الصغيرة، وروي عنه: أيضًا أنه المنظرة.
ومعنى الآية: أنكم تبنون بكل مكان مرتفع علمًا تعبثون ببنيانه، وتلعبون بالمارة، وتسخرون منهم، لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق، فتؤذون المارة، وتسخرون منهم.
وقال الكلبي: إنه عبث العشارين بأموال من يمرّ بهم حكاه الماوردي.
قال ابن الأعرابي: الريع الصومعة، والريع: البرج يكون في الصحراء، والريع: التلّ العالي، وفي الريع لغتان كسر الراء وفتحها.
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} المصانع: هي الأبنية التي يتخذها الناس منازل.
قال أبو عبيدة: كل بناء مصنعة منه، وبه قال الكلبي وغيره، ومنه قول الشاعر:
تركن دارهم منهم قفارا ** وهدّمنا المصانع والبروجا

وقيل: هي الحصون المشيدة، قاله مجاهد، وغيره، وقال الزجاج: إنها مصانع الماء التي تجعل تحت الأرض واحدتها: مصنعة ومصنع، ومنه قول لبيد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ** وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

وليس في هذا البيت ما يدلّ صريحًا على ما قاله الزجاج، ولكنه قال الجوهري: المصنعة بضم النون: الحوض يجمع فيه ماء المطر، والمصانع: الحصون.
وقال عبد الرزاق: المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العالية.
ومعنى {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}: راجين أن تخلدوا، وقيل: إن لعل هنا للاستفهام التوبيخي أي هل تخلدون، كقولهم: لعلك تشتمني أي هل تشتمني؟ وقال الفراء: كي تخلدوا، لا تتفكرون في الموت.
وقيل: المعنى: كأنكم باقون مخلدون.
قرأ الجمهور: {تخلدون} مخففًا.
وقرأ قتادة بالتشديد.
وحكى النحاس أن في بعض القراءات: {كأنكم مخلدون}، وقرأ ابن مسعود: {كي تخلدوا}.
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} البطش: السطوة والأخذ بالعنف.
قال مجاهد وغيره: البطش العسف قتلًا بالسيف، وضربًا بالسوط.
والمعنى: فعلتم ذلك ظلمًا، وقيل: هو القتل على الغضب قاله الحسن، والكلبي.
قيل: والتقدير: وإذا أردتم البطش، لئلا يتحد الشرط، والجزاء، وانتصاب {جبارين} على الحال.
قال الزجاج: إنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم، وأما في الحق، فالبطش بالسوط والسيف جائز.
ثم لما وصفهم بهذه الأوصاف القبيحة الدالة على الظلم والعتوّ والتمرّد والتجبر أمرهم بالتقوى، فقال: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أجمل التقوى ثم فصلها بقوله: {واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ}، وأعاد الفعل للتقرير والتأكيد {وجنات وَعُيُونٍ} أي بساتين، وأنهار وأبيار.
ثم وعظهم وحذرهم فقال: {إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إن كفرتم، وأصررتم على ما أنتم فيه ولم تشكروا هذه النعم، والمراد بالعذاب العظيم: الدنيوي والأخروي.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس {قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ} أي: أنصدّقك؟.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد {واتبعك الأرذلون} قال: الحوّاكون.
وأخرج أيضًا عن قتادة قال: سفلة الناس، وأراذلهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {الفلك المشحون} قال: الممتلىء.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه، أنه قال: أتدرون ما المشحون؟ قلنا: لا، قال: هو الموقر.
وأخرج ابن جرير عنه أيضًا قال: هو المثقل.
وأخرج ابن جرير عنه أيضًا: {بِكُلّ رِيعٍ} قال: طريق {ءَايَةً} قال: علمًا {تَعْبَثُونَ} قال: تلعبون.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضًا: {بِكُلّ رِيعٍ} قال: شرف.
وأخرجوا أيضًا عنه: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} قال: كأنكم تخلدون.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا: {جَبَّارِينَ} قال: أقوياء.
{قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)} أي وعظك، وعدمه {سَوَاء} عندنا لا نبالي بشيء منه، ولا نلتفت إلى ما تقوله.
وقد روى العباس عن أبي عمرو، وروى بشر عن الكسائي {أَوَعَظْتَ} بإدغام الظاء في التاء، وهو بعيد، لأن حرف الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما قرب منه جدًّا، وروى ذلك عن عاصم والأعمش وابن محيصن.
وقرأ الباقون بإظهار الظاء {إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} أي: ما هذا الذي جئتنا به، ودعوتنا إليه من الدين إلاّ خلق الأوّلين أي عادتهم التي كانوا عليها.
وقيل: المعنى: ما هذا الذي نحن عليه إلاّ خلق الأوّلين وعادتهم، وهذا بناء على ما قاله الفراء، وغيره: إن معنى: {خُلُقُ الأولين}: عادة الأوّلين.
قال النحاس: خلق الأوّلين عند الفراء بمعنى عادة الأوّلين.
وحكى لنا محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد قال: {خُلُقُ الأولين}: مذهبهم، وما جرى عليه أمرهم.
والقولان متقاربان.
قال: وحكى لنا محمد بن يزيد أن معنى {خُلُقُ الأولين}: تكذيبهم.
قال مقاتل: قالوا: ما هذا الذي تدعونا إليه إلاّ كذب الأوّلين.
قال الواحدي: وهو قول ابن مسعود ومجاهد.